سورة مريم - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


قلت: وجه المناسبة لما قبله- والله أعلم-: أن الحق جلّ جلاله لما سرد قصص الأنبياء وما نشأ بعدهم، وكان جبريل هو صاحب وحيهم الذي ينزل به عليهم، ذكر هنا أن نزوله ليس باختياره، فقال: {وما نتنزل...} إلخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: حاكيًا لقول جبريل عليه السلام: {وما نتنزَّلُ} عليك يا محمد {إِلا بأمرِ ربك}، وذلك حين أبطأ الوحي عنه صلى الله عليه وسلم، لما سئل عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، فلم يدر كيف يجيب، ورجا أن يوحي إليه فيه، فأبطأ عليه أربعين يومًا. قاله عكرمة. وقال مجاهد: ثنتي عشرة ليلة، أو خمس عشرة. فشقَّ على النبي صلى الله عليه وسلم مشقة شديدة. وقال: «يا جبريل قد اشتقت إليك، فقال جبريل: إني كنت أَشْوَق، ولكني عبد مأمور، إذا بُعثتُ نزلت، وإذا حُبست احتَبَستُ، فأنزل الله هذه الآية وسورة الضحى»، والتنزل: النزول على مَهَل، وقد يُطلق على مطلق النزول، والمعنى: وما نتنزل وقتًا غِبّ وقتٍ إلا بأمر الله تعالى، على ما تقتضيه حكمته.
وقيل: هو إخبار عن أهل الجنة أنهم يقولون عند دخولها مخاطبين بعضهم لبعض بطريق التبجح والابتهاج، أي: ما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر الله تعالى ولطفه، وهو مالك المور كلها، سالفها ومُتَرَقَّبُهَا وحاضرها، فما وجدناه وما نجده هو من لطفه وفضله. اهـ. قلت: ولا يخفى حينئذ مناسبته.
ثم قال: {له ما بين أيدينا وما خَلْفَنا وما بين ذلك} أي: وما نحن فيه من الأماكن والأزمنة، فلا ننتقل من مكان إلى مكان، ولا ننزل في زمان دون زمان، إلا بأمره ومشيئته، وعن مقاتل: {له ما بين أيدينا} من أمر الدنيا {وما خلفنا} من أمر الآخرة، {وما بين ذلك} مما بين النفختين، وهو أربعين سنة. أو ما بين أيدينا بعد الموت، وما خلفنا قبل أن يخلقنا، وما بين ذلك مدة حياتنا، أي: له علم ذلك كلها {وما كان ربك نَسِيًّا}: تاركًا لك ومهملاً شأنك، أو: ذَاهِلاً عنك حتى ينسى أمر الوحي إليك؛ لأنه مُحال، يعني: أن عدم نزول جبريل لم يكن إلا لعدم الأمر به؛ لحكمة بالغة فيه، ولم يكن تركه تعالى لك إهمالاً وتوديعًا، كما زعمت الكفرة. وفي إعادة اسم الرب المضاف إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه والإشعار بعلية الحكم ما لا يخفى.
وقوله تعالى: {ربُّ السماوات والأرض وما بينهما} بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى؛ فإن من بيده ملكوت السماوات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحته الغفلة والنسيان. والفاء في قوله: {فاعبُده واصطَبِرْ لعبادته} لترتيب ما بعدها على ما قبلها، من كونه تعالى رب السماوات والأرض وما بينهما.
أو من كونه تعالى غير تارك له عليه السلام، أو غير ناسٍ لأعمال العاملين، والمعنى على الأول: فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية الكاملة فاعبده، أو حين عرفته تعالى لا ينساك، أو: ينسى أعمال العاملين فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها، ولا تحزن بإبطاء الوحي وهزْءِ الكفرة، فإنه يراقبك ويلطف بك في الدنيا والآخرة، {هل تعلم له سَمِيًّا} أي: شبيهًا ونظيرًا، أو هل تعلم أحدًا تسمى بهذا الاسم غير الله العالي، والتسمية تقتضي التسوية بين المتشابهين، ولا مثل له، لا موجودًا ولا موهومًا، مع أن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلاً، ولم يتجاسر أحد أن يسمي بهذا الاسم، ولو تجاسر أحدٌ لهلك.
وقيل: إن أحدًا من الجبابرة أراد أن يسمي ولده بهذا الاسم، فخف به وبتلك البلدة. ذكره القشيري في التحبير. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما قاله جبريل عليه السلام من كونه لا ينزل إلا بأمر ربه ليس خاصًا به؛ بل كل أحد لا حركة له ولا سكون إلا بالله وبمشيئته، فلا يصدر عن أحد من عبيده قول ولا فعل، ولا حركة ولا سكون، إلا وقد سبق في علمه وقضائه كيف يكون، فلا انتقال ولا نزول إلا بقدر سابق وتحريك لاحق؛ «ما من نفَس تبديه إلا وله قدر فيك يمضيه». وقال الشاعر:
مشيناها خطى كُتبت علينا *** ومن كُتبت عليه خطى مشاها
ومن قسمت منيته بأرض *** فليس يموت في أرض سواها
فراحة الإنسان أن يكون ابن وقته، كل وقت ينظر ما يفعل الله به، فبهذا ينجو من التعب، ويتحقق له الأدب. وبالله التوفيق.


قلت: {أئذا}: ظرف، والعامل فيه محذوف، أي: أأُخرج إذا مت، لا المتأخر عن اللام لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، إلا أن يرخص في الظروف. واللام في {لَسَوْفَ} ليست للتأكيد، فإنه مُنْكِرٌ، وكيف يحقق ما ينكر، وإنما كلامه حكاية لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه الذي قال: والله إن الإنسان إذا مات لسوف يُخرج حيًّا، فأنكر الكافر ذلك وحكى قوله، فنُزلت الآية على ذلك، قاله الجرجاني: و{الشياطين}: عطف على ضمير المنصوب، أو مفعول معه. و{جثيًّا}: حال من ضمير {لنحضرنهم} البارز، أي: لنحضرنهم جاثين، جمع جاث، من جثى إذا قعد على ركبتيه، وأصله: جثوو بواوين، فاستثقل اجتماعهما بعد ضمتين، فكسرت الثاء تخفيفًا، وانقلبت الواو الأولى ياء؛ لانكسار ما قبلها، فاجتمعت واو وياء، وسبقت إحداهما بسكون، فقُلبت الواو ياء، وأدغمت الأولى في الثانية، ومن قرأ بكسر الجيم: فعلى الإتْبَاعِ.
و{أَيُّهُم}: مبني على الضم عند سيبويه، لأنه موصول، فحقه البناء كسائر الموصولات، لكنه أعرب في بعض التراكيب للزوم الإضافة، فإذا حذف صَدْرُ صِلَتِهِ زاد نقصُه فقوي شبه الحرف فيه، وهو منصوب المحل بلننزعن، وقرئ منصوبًا على الإعراب، ومرفوعًا عند الخليل وغيره بالابتداء، وخبره: {أشد}، والجملة محكية، والتقدير: لننزعن من كل شيعة الذين يُقال لهم أيهم أشد... الخ. وقال يونس: علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء، و{عتيًّا} و{صليًّا} أصلهما: عتوى وصلوى، من عتى وصلى، بالكسر والفتح، فاعلاً بما تقدم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ويقول الإِنسانُ} أي: جنس الإنسان، والمراد الكفرة، وإسناد القول إلى الكل لوجود القول فيما بينهم، وإن لم يقله الجميع، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانًا، وإنما القاتل واحد، وقيل: القائل: أُبيُّ بن خَلَف، فإنه أخذ عظامًا بالية، ففتتها، وقال: يزعم محمد أنا نُبعث بعد ما نموت ونصير إلى هذا الحال، فنزلت. أي: يقول بطريق الإنكار والاستبعاد: {أئذا ما متُّ لسوف أُخرج حيًّا} أي: أأبعث من الأرض بعد ما مِتُّ وأُخرج حيًا؟ قال تعالى: {أولا يَذكُرُ الإِنسانُ}، من الذِّكر الذي يُراد به التفكر، ولذلك قُرئ بالتشديد من التذكير. والإظهارُ في موضع الإضمار؛ لزيادة التقرير والإشعار بأن الإنسانية من دواعي التفكر فيما جرى عليها من شؤون التكوين، فإذا ترك التفكر التحق بالبهائم، فهلاّ يذكر أصله! وهو {أنا خلقناه من قبلُ} أي: من قبل الحالة التي فيها، وهي حالة حياته، {ولم يكُ شيئًا} أي: والحال أنه لم يك شيئًا أصلاً، وحيث خلقناه وهو في تلك الحال فلأن نبعث الجمع بتفرقاته أولى وأظهر؛ لأن الإعادة أسهل من البدء.
قال تعالى: {فوربّك لنحشرنهم} أي: لنجمعنهم بالسّوق إلى المحشر بعدما أخرجتهم من الأرض.
وإقسامه سبحانه بربوبيته مضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام-؛ لتحقيق الأمر، والإشعار بِعِلِّيَّتِهِ، وتفخيم شأنه، ورفع منزلته صلى الله عليه وسلم، وفيه إثبات البعث بالطريق البرهاني على أبلغ وجه وآكده، كأنه أمر واضح غني عن التصريح به، وإنما المحتاج إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال، أي: حيث ذكر الحشر وما بعده. ولم يصرح بنفس البعث؛ لتحقق وضوحه، وإنما قال: {فوربّك لنحشرنهم} أي: نجمعهم {والشياطينَ} المغوين لهم، إلى المحشر، وقيل: إن الكفرة يُحشرون مع قرنائهم من الشياطين التي كانت تغويهم، كل منهم مع شيطانه في سلسلة، {ثم لنحضِرَنَّهم حول جهنم جثيًّا}: باركين على ركَبِهم؛ لما يدهمُهم من هول المطلع، والجثو: جلسة الذليل الخائف.
والآية كما ترى، صريحة في الكفرة، فهم الذين يُساقون من الموقف إلى شاطئ جهنم، جُثاة؛ إهانة بهم، أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من شدة الخوف. وأما قوله تعالى: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجَاثيَة: 28] فهي عامة للناس في حال الموقف قبل التواصل إلى الثواب والعقاب، فإن أهل الموقف جاثون على الرُّكب، كما هو المعتاد في مقام التفاؤل والخصام، قلت: ولعل هذا فيمن يُناقش الحساب، وأما غيرهم فيلقى عليهم سحابة كنفه، ثم يقررهم بذنوبهم ويسترهم، كما في الحديث.
{ثم لنَنْزِعَنَّ من كل شيعةٍ} أي: من كل أمة تشيعت دينًا من الأديان، {أيُهم أشدُّ على الرحمن عِتيًّا} أي: من كان منهم أعصى وأعتى، فيطرحهم فيها. قال ابن عباس: أي: أيهم أشد جرأة، وقال مجاهد: فجورًا وكذبًا، وقال مقاتل: علوًا، أو غلوًا في الكفر، أو كبرًا، وقال الكلبي: قائدهم ورأسهم، أي: فيبدأ بالأكابر فالأكابر بالعذاب، ثم الذي يليهم جرمًا. وفي ذكر الأشدية تنبيه على أنه تعالى يعفو عن بعض أهل العصيان من غير الكفرة، إذا قلنا بعموم الآية، وأما إذا خصصناها بالكفرة، فالأشدية باعتبار التقديم للعذاب.
قال تعالى: {ثم لنَحنُ أعلمُ بالذين هم أولى بها صِليًّا} أي: أولى بصليها وأحق بدخولها، وهم المنتزعون الذين هم أشدهم عتوًا، أو رؤوسهم، فإن عذابهم مضاعف لضلالهم وإضلالهم.
{وإِن منكم إِلا وارِدُها}، فيه التفات لإظهار مزيد الاعتناء، وقرئ: {وإن منهم}. ويحتمل أن يكون الخطاب لجميع الخلق، أي: وإن منكم أيها الناس {إلا واردها} أي: واصلها وحاضرها، يمرُ بها المؤمنون وهي خامدة، وتنهار بغيرهم. وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن ذلك فقال: «إِذَا دَخَلَ أَهْلَ الجَنَّة قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَليْسَ قَدْ وعدنَا ربُّنا أَنْ نَرِدَ النَّارَ؟ فَيُقالُ لَهُمْ: قَدْ وَرَدْتُمُوهَا وَهِيَ خَامِدَةٌ» وأما قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} فالمراد به الإبعاد عن عذابها، وقيل: ورودها: الجواز على الصراط بالمرور عليها.
وعن ابن مسعود: الضمير في {واردها} للقيامة، وحينئذ فلا يعارض: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} [الأنبياء: 102]، ولا ما جاء فيمن يدخل الجنة بغير حساب، ولا مرور على الصراط، فضلاً عن الدخول فيها، على أنه اختلف في الورود، فقيل: الدخول وتكون بردًا وسلامًا على المؤمن.
وقيل: المرور كما تقدم، وقيل: الإشراف عليها والاطّلاع. قال القشيري: كلٌّ يَرِدُ النارَ، ولكن لا ضيْرَ منها ولا إحساس لأحدٍ إلا بمقدار ما عليه من السيئات، والزلل، فأشدُّهم فيها انهماكًا: أشدهم فيها بالنار اشتعالاً واحتراقًا، وأما بريء الساحة، نقي الجانب بعيد الذنوب، فكما في الخبر: «إن النار عند مرورهم ربوة كربوة اللَّبَن- أي: جامدة كجمود اللبن حين يسخن- فيدخلونها ولا يحسون بها، فإذا عبروها قالوا: أليس قد وعدنا جهنم على الطريق؟ فيقال لهم: عبرتم وما شعرتم». اهـ.
{كان على ربك حتمًا مقضيًّا} أي: كان وُرودهم إياها أمرًا محتومًا أوجبه الله تعالى على ذاته، وقضى أنه لا بد من وقوعه. وقيل: أقسم عليه، ويشهد له: «إلا تحلة القسم».
{ثم نُنَجِّي الذين اتقوا} الكفرَ والمعاصي، بأن تكون النار عليهم بردًا وسلامًا، على تفسير الورود بالدخول، وعن جابر أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الوُرودُ الدُّخولُ، لا يَبْقَى بَرٌّ ولا فَاجِرٌ إِلاَّ دخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى المُؤْمِنِينَ بَرْدًا وسَلاَمًا، كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيم، حَتَّى إنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ» وإن فسرنا الورود بالمرور، فنجاتهم بالمرور عليها والسلامة من الوقوع فيها، {ونذَرُ الظالمين فيها جِثيًّا}: باركين على ركبهم، قال ابن زيد: الجثي شر الجلوس، لا يجلس الرجل جاثيًا إلا عند كرب ينزل به. اهـ.
الإشارة: من أراد كرامة الآخرة فَلْيُرَبِّ يقينه فيها، حتى تكون نصب عينيه، فإنه يرد على الله كريمًا. ومن أراد السلامة من أهوالها فليخفف من أوساخها وأشغالها، ويلازم طاعة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن أراد سرعة المرور على الصراط، فليلزم اليوم اتباع الصراطِ المستقيم، فبقدر ما يستقيم عليها تستقيم أقدامه على الصراط، وبقدر ما يزل عنها يزلُّ عن الصراط.
قال في الإحياء، لما تكلم على العدل في الكيل والوزن، قال بعد كلامه: وكل مكلف فهو صاحب موازين في أفعاله وأقواله وخطراته، فالويل له إن عدل عن العدل، ومال عن الاستقامة، ولولا تعذُّر هذا واستحالته لما ورد قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها...} الآية، فلا ينفك عبدٌ ليس معصومًا عن الميل عن الاستقامة، إلا أن درجات الميل تتفاوت تفاوتًا عظيمًا، فبذلك تتفاوت مدة إقامتهم في النار إلى أوان الخلاص، حتى لا يبقى بعضُهم إلا بقدر تحلة القسم، ويبقى بعضهم ألفًا وألوف سنين، نسأل الله تعالى أن يقربنا من الاستقامة والعدل، فإن الاستداد على متن الصراط المستقيم من غير ميل عنه غير مطموع فيه؛ فإنه أدق من الشعرة، وأحدّ من السيف، ولولاه لكان المستقيم عليه لا يقدر على جواز الصراط الممدود على متن النار، الذي من صفته أنه أدق من الشعر، وأحدّ من السيف، وبقدر الاستقامة على الصراط المستقيم يخِف مرور العبد يوم القيامة على الصراط. اهـ.
وقال الترمذي الحكيم: يجوز الأولياء والصديقون وهم لا يشعرون بالنار، قال الله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]، وإنما بَعُدوا عنها لأن النور احتملهم واحتوشهم، فهم يمضون في النار، حتى إذا خرجوا منها قال بعضهم لبعض: أليس قد وُعدنا النار، فذكر ما تقدم. ثم قال: فأما ضجة النار فمن بردهم، وذلك أن الرحمة باردة تطفئ غضب الرب، فبالرحمة نالوا النور، حتى أشرق في قلوبهم وصدورهم، فكان نوره في قلوبهم، والرحمة مظلة عليهم، فخمدت النار من بردهم عندما لقُوهَا، فضجت من أجل أنها خلقت منتقمة، فخافت أن تضعف عن الانتقام. ولذلك رُوي أنها تقول: جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورُك لهبي. اهـ.
وقال الورتجبي: إذا كان جمال الحق مصحوبهم، فلا بأس بالوقوف في النيران، فإن هناك أهل الجنان.
إذا نزلت سلمى بواد فماؤها *** زلال وسَلسال وسيحانها وِرْدُ
.. اهـ.
وقال جعفر الصادق: لولا مقاربة النفوس ما دخل أحد النار، فلما فارقتهم نفوسهم أوردهم النار بأجمعهم، فمَنْ كان أشد إعراضًا عن خبث النفس كان أسرع نجاة من النار، ألا ترى الله يقول: {ثم نُنجي الذين اتقوا}. اهـ. قلت: وقد تقدم أن من لا حساب عليهم- وهم المقربون- يمرون على الصراط ولا يحسون به، وهم الذين يمرون عليه كالطير أو كالبرق، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه، وبجاه خير الخلق مولانا محمد نبيه وحبه، آمين.


قلت: {هم أحسن}: صفة لِكَمْ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإِذا تُتلى عليهم}؛ على الكفرة {آياتُنا} الناعية عليهم فظاعة حالهم ووخامة مآلهم، والناطقة بحسن عاقبة المؤمنين، حال كونها {بيناتٍ}: واضحات في نفسها، أو بينات الإعجاز، أو بينات المعاني، {قال الذين كفروا} أي: قالوا، ووضع الموصول موضع الضمير؛ للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يُتلى عليهم رادين له، أو: قال الذين تمرَّدوا في الكفر والعتو؛ وهم النضر بن الحارث وأتباعه، قالوا {للذين آمنوا}، اللام للتبليغ، أي: قالوا مبلغين الكلام لهم، وقيل: لام الأجل، كقوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] أي: لأجلهم وفي حقهم، والأول أولى؛ لأن الكلام هنا كان معهم بدليل قوله: {أيُّ الفريقين} أي: المؤمنين والكفار، {خيرٌ} كأنهم قالوا: أينا {خيرٌ مقامًا} أي: مكانًا: نحن أو أنتم، وقرئ بالضم، أي: موضع إقامة ومنزل، {وأحسنُ نَدِيًّا}؛ مجلسًا ومجتمعًا، أو: أينا خير منزلاً ومسكنًا، وأحسن مجلسًا؟
يُروَى أنهم كانوا يُرجلون شعورهم ويدهنونها، ويتزينون بالزينة الفاخرة، ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين، يريدون بذلك أن خيريتهم، حالاً، وأحسنيتهم، مقالاً، مما لا يقبل الإنكار، وأنَّ ذلك لكرامتهم على الله سبحانه وزلفاهم عنده، وأنَّ الحال التي عليها المؤمنون، من الضرورة والفاقة ورَثَاثَةِ الحال؛ لقصور حظهم عند الله. وما هذا القياس العقيم والرأي السقيم إلا لكونهم جَهلةً لا يعلمون إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا، وذلك مبلغهم من العلم، فردَّ عليهم بقوله: {وكم أهلكنا قبلهم من قَرْنٍ هم أحسنُ أثاثًا}: مالاً ومتاعًا {ورِءْيًا}؛ منظرًا، أي: كثيرًا من القرون التي كانوا أفضل منهم، فيما يفتخرون به من الحظوظ الدنيوية، كعاد وثمود وأضرابهم العاتية قبل هؤلاء، أهلكناهم بفنون العذاب، ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا، لما فعلنا بهم ما فعلنا، وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى، كأنه قيل: فلينتظر هؤلاء أيضًا مثل ذلك.
و{أثاثًا}: تمييز، وهو متاع البيت، أو ما جد منه، و{رِءْيًا}: كذلك، فِعْل من الرؤية بمعنى المنظر، قال ابن عزيز: {رءيا} بهمزة ساكنة: ما رأيت عليه من شارة حسنة وهيئة، وبغير همز: يجوز أن يكون على معنى الأول، ويجوز أن يكون من الريّ. أي: منظرهم مُرتو من النعمة. وَزِيًّا، بالزاي المعجمة، في قراءة ابن عباس، يعني هيئة ومنظرًا. اهـ.
الإشارة: رفعة القدر والمقام لا تكون بالتظاهر بمفاخر اللباس والطعام، ولا بحسن الهيئة ومنظر الأجسام، وإنما يكون باحتظاء القلوب بمعرفة الله، وتمكين اليقين من القلوب، واطلاعها على أسرار الغيوب، مع القيام بوظائف العبودية، أدبًا مع عظمة الربوبية، ونسيان النفوس والاشتغال عنها بالعكوف في حضرة القدوس، فأهل القلوب لا يعبأُون بظواهر الأشباح، وإنما يعتنون بحياة الأرواح.
كمل حقيقتك التي لم تَكْمُلِ *** والجسم دعه في الحضيض الأسفل
فقوت قلوبهم التواجد والأذكار، وحياة أرواحهم العلوم والأسرار، وأنشدوا:
بالقوت إحياءُ الجسوم وذكره *** تحيا به الألباب والأرواح
هو عيشهم ووجودهم وحياتهم *** حقًا ورَوْح نفوسهم والرَّاح
وأما من عَظُمَ جهلُه، وكَثُفَ حجابه، فإنما ينظر إلى بهجة الظواهر وتزيينها بأنواع المفاخر، أو إلى من عظم جاهه وكثرت أتباعه، وهذه نزعة جاهلية، حيث قالوا حين يُتلى عليهم الوعظ والتذكير: {أي الفريقين خير مقامًا وأحسن نديًا}، {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ} [الرُّوم: 7]. وبالله التوفيق.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9